إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / الثورة البلشيفية









الفصل الرابع

الفصل الرابع

تطورات الأحداث قبل ثورة أكتوبر 1917

روسيا والحرب العالمية الأولى

·     استطاع القائد الألماني فون هند تبرج أن يحرز نصراً سريعاً حاسماً على الروس في موقعة تاننبرج (16 - 31 أغسطس عام 1914) وهي الموقعة التي طهرت الأراضي الألمانية من الغزو الروسي، وأنقذت بروسيا الشرقية من الاحتلال وكانت ضربة قاصمة لآمال الحلفاء، الذين كانوا يعولون على الضغط الروسي في الشرق لإنقاذ الموقف في الغرب. فقد تحطم الجيش الروسي ووقع الكثيرون منه في الأسر على أن الروس ـ رغم هزيمتهم أمام الألمان في تاننبرج ـ استطاعوا أن ينجحوا في جبهة أخرى، أمام النمسويين في غاليسيا حتى استطاعوا الاستيلاء عليها في نهاية العام.

·     مع ذلك بدأ نجم روسيا العسكري يأفل في عام 1915، إذ كانت تنقص قواتها الذخيرة والمؤونة والأسلحة الحديثة، وتسيطر عليها قيادة غير صالحة، بينما كانت قوات الدول الوسطى تفوقها عدداً وعدة، ومن ثم دارت الدائرة على الروس، منذ شهر مايو من ذلك العام، فهاجمتهم القوات النمسوية الألمانية، وما يكاد يمضى شهران حتى جلا الروس عن غاليسيا واحتلها النمسويون والألمان. وأصبحت القوات الروسية الأخرى، التي تعسكر في بولندا، معرضة للهجوم من الشمال والجنوب، مما أدى بالروس إلى الجلاء عن "وارسو" و "أيفانجورود" وانفتح الطريق أمام القوات النمسوية الألمانية فاحتلت كوفنووبرست لتوفسك وفلنا، وهكذا طردت القوات الروسية من غاليسيا وبولنده، وخسرت جانباً من لتوانيا، وبذلك خسرت مناطق صناعية غنية، وأثر ذلك على قدرتها الدفاعية وروحها المعنوية.

ثورة فبراير البرجوازية الديموقراطية عام 1917

أولاً: تفاقم الأزمة السياسية

اتسمت الأزمة السياسية في روسيا، قبيل عام 1917، بطابع حاد لدرجة هددت في أية لحظة أن تنقلب إلى انتفاضة شعبية عامة. فالحرب العالمية الأولى، التي أظهرت بؤس وآلام الجماهير الشعبية، عجلت من نضوج الثورة في روسيا حيث بلغ الانهيار الاقتصادي مداه. وفي شتاء 1916 ـ 1917 توقفت عن العمل، بسبب النقص في الفحم والخامات، مصانع ضخمة كثيرة، وتفاقمت البطالة في البلاد، ودب شلل حقيقي في السكك الحديدية. وفي يناير 1917 لم تستطع السكك الحديدية أن تنقل، من الدون إلى موسكو وبتروجراد، مليون بود من الحبوب وذلك بسبب عدم وجود العربات. وبدأت المجاعة تنتشر في المدن الكبيرة. فطبق نظام توزيع المؤن بالبطاقات.

ازدادت حدة الحركة العمالية والفلاحية وحركة التحرير الوطني، في بداية 1917، بصورة لم يسبق لها مثيل. ففي يناير 1917 احتفل عمال بتروجراد وموسكو، وغيرهما من المراكز الصناعية، تلبية لنداء البلاشفة بذكرى "الأحد الدموي" (9 يناير عام 1905) بإضرابات كبيرة ومظاهرات واجتماعات جماهيرية. وكان هذا هو أضخم إضراب منذ بداية الحرب.

ولم يفهم القيصر ولا مستشاروه خطورة الوضع، فظنوا أن الثورة التي بدأت ما هي إلاّ إضرابات محلية يستطيعون قمعها بقوة السلاح. ووضعوا خطة عقد صلح منفرد مع ألمانيا لإقامة ديكتاتورية عسكرية فيما بعد، والقضاء على الحركة الثورية. وكانت ألمانيا القيصرية، العاجزة عن القيام بالحرب على جبهتين، قد بدأت تبحث عن طرق لعقد معاهدة صلح منفردة مع روسيا، في وقت تعاظمت في الحكومة القيصرية العناصر الموالية لألمانيا. وكانت هذه محاولة لإنقاذ السلالة الملكية لآل رومانوف والنظام الملكي في روسيا بأية وسيلة كانت.

وقد أثارت تصرفات القيصر سخطاً حاداً لدى البرجوازية، التي كانت تسعى إلى مواصلة الحرب، جنباً إلى جنب، مع الحلفاء والاستفادة من نتائج النصر. وأدركت أن الحكومة غير قادرة، لا على مواصلة الحرب، ولا على إدارة شؤون البلاد، وأن إرهاصات الثورة بدأت تلوح في روسيا. وهذا ما جعل زعماء البرجوازية يعارضون الثورة. وقد سبق وأن نظمت في نهاية عام 1916 مؤامرة معادية للثورة في الأوساط البرجوازية والعسكرية. وكان الجنرال كريموف والرأسماليون تيريشنكو وبوتيلوف وكونوفالوف وزعيماً الأكتوبريين والكاديت غوتشكوف وميليوكوف وحتى بعض الأمراء الكبار في عداد جماعة المتآمرين. وكانوا قد قرروا أن يوقفوا، في النصف الأول من مارس 1917 بمساعدة الحرس، قطار القيصر في الطريق من مقر القيادة إلى بتروجراد، وأن يرغموا القيصر على التخلي عن العرش، وتولية ابنه الطفل الصغير قيصراً، تحت وصاية أحد الأمراء الكبار. وكان قد جرى حديث حول إنشاء ملكية دستورية في روسيا. وأيدت هذه الخطط إنجلترا وفرنسا، على لسان سفيريهما في بتروجراد، سعياً منهما لمنع خروج روسيا من الحرب، وكانت البرجوازية تعتمد على مساندة المناشفة والاشتراكيين الثوريين، اعتماداً له مبرراته.

كانت هذه مؤامرة معادية للثورة دبرتها البرجوازية الروسية. أملاً في إحداث انقلاب في القصر ومنع وقوع الثورة. إلاّ أن انتفاضة الشعب الثورية أفسدت على البرجوازية تنفيذ مخططاتها.

ثانياً: انتفاضة في بتروجراد وإسقاط القيصرية

كانت الثورة تقترب بسرعة، وكان شهر فبراير 1917 كله عبارة عن سلسلة متواصلة من الإضرابات والمظاهرات والاجتماعات العمالية. ونادى البلاشفة بالكفاح السافر ضد القيصرية ولإسقاط النظام الملكي، وفضحوا البرجوازية التي سعت للتفاهم مع القيصرية على حساب الشعب. وكان لنداءات البلاشفة صدى واسع بين الجماهير الشعبية.

وفي مطلع شهر فبراير حولت الحكومة مدينة بتروجراد إلى منطقة حربية، في محاولة منها لخنق الثورة الزاحفة بالقوة. وأعطيت لقائد المنطقة الجنرال خابالوف صلاحيات لا حدود لها لمقاومة الحركة الثورية، إلا أن المد الثوري استمر يتعاظم.

وفي 14 فبراير جرت مظاهرة كبيرة لعمال بتروجراد تحت شعاري: "لتسقط الحرب" و"ليسقط الحكم المطلق". وفشلت محاولات المناشفة لتحويلها إلى مظاهرة ثقة بمجلس دوما الدولة البرجوازي (في هذا اليوم افتتحت دورة مجلس الدوما). وقد أحدثت حوادث بتروجراد صدى واسعاً لدى عمال موسكو وغيرها من المناطق الصناعية.

تحولت الثورة في 14 فبراير إلى ثورة مسلحة. وبذل المناشفة جهداً كبيراً لتوفير السلاح وتجهيز الميليشيات القتالية وتعبئة الجماهير للنضال. ودعوا الشعب إلى الانتفاضة. ففي النداء الموجه "إلى العمال والمواطنين والجنود" كتب البلاشفة: "إن على الطبقة العاملة والفلاحين أن يتعاونوا للقضاء إلى الأبد على العار الذي يجلل روسيا".

وفي 18 فبراير هبت موجة جديدة من الإضرابات، فقد أضربت ورش مصنع بوتيلوف ثم وحدات المصنع كله. وفي 22 فبراير أعلنت الإدارة عن إغلاق المصنع، الأمر الذي أدى إلى إثارة سخط بروليتاريا بتروجراد، فكانت جماهير الجياع تحطم الحوانيت وتوقف الحركة في الشوارع وتهتف أن الشعب يطالب بالخبز وبوضع حد للحرب.

وفي 23 فبراير احتفل عمال وعاملات بتروجراد، تلبية لنداء البلاشفة، بيوم المرأة العالمي، بإضراب اشترك فيه زهاء 90 ألف امرأة يهتفن: "نريد خبزاً"، و"لتسقط الحرب" و"أعيدوا لنا أزواجنا". ظهرت القوات الحكومية في هذا اليوم بمظهر التردد، ولم تعد تثير الخوف لدى المتظاهرين كما كان الحال في السابق. وفي محاولة لتهدئة العمال، زادت السلطات القيصرية كميات الخبز، وأعلنت أن احتياطيات الخبز كافية في العاصمة. ولكن ذلك لم يوقف الثورة.

وفي 24 فبراير أضرب عن العمل (200) ألف شخص. وفي 25 فبراير اتسع حجم الإضراب، إذ أضرب عن العمل أكثر من (500) ألف عامل. يحملون الرايات الحمراء. وعجزت الشرطة عن صد العمال الذين خرقوا صفوف الشرطة واندفعوا إلى جادة نيفسكي. ولم يجرؤ الجنرال خابالوف في هذا اليوم على استعمال الأسلحة؛ ذلك أن قوات الحاميةلم يكن موثوقاً بها خاصة أن بعض الوحدات أظهرت تعاطفاً واضحاً مع العمال الثوريين. وأصدر البلاشفة منشوراً دعوا فيه الشعب إلى ثورة في جميع أرجاء روسيا. وفي 25 فبراير استمرت المظاهرات، والصدامات بين العمال والشرطة. وسقط الضحايا.

وفي مساء 25 فبراير أرسل نيقولاي الثاني إلى الجنرال خابالوف أمراً حاسماً قال فيه: "إني آمر بوضع حد للإضرابات في العاصمة غداً". ولم يفهم القيصر، حتى هذه اللحظة الحرجة، أن ما يجرى ليس إضرابات وإنما ثورة شعبية، ستزيل قريباً نظام الحكم المطلق.

وفي ليلة 25/ 26 فبراير قام خابالوف بإعتقالات كثيرة (اعتقلت لجنة بتروجراد البلشفية) وعزز تسليح الشرطة. واتخذت السلطات القيصرية كافة التدابير لقمع الأعمال الثورية في البلاد بأسرها، وخاصة في المراكز البروليتارية.

وكان صباح 26 فبراير هادئاً. فأسرع خابالوف فرحاً يوجه برقية إلى القيصر: "اليوم،26 فبراير، كل شئ هادئ في المدينة منذ الصباح". إلاّ أن شوارع المدينة امتلأت قبيل الساعة الثانية عشرة بالمتظاهرين. وتوجهت المظاهرات العمالية من جديد إلى وسط المدينة، ولكنها قوبلت بنيران البنادق والرشاشات. فوقعت طيلة النهار اصطدامات بين العمال ورجال الشرطة والقوات العسكرية. قاوم العمال ببسالة. ولكن القوات الحكومية استطاعت أن تسيطر على وسط المدينة، إلاّ أن انتصارها لم يدم طويلاً.

وكان لصمود العمال من الجنسين تأثيره الكبير على الجنود. وقام البلاشفة بنشاط دعائي واسع بين قوات الحامية. فأرسلوا إلى الثكنات مئات المحرضين. والمنشورات الداعية إلى تأييد الشعب الثائر: "منذ ثلاثة أيام ونحن، عمال بتروجراد، نطالب علناً بتصفية نظام الحكم المطلق، المسؤول عن سفك دماء الشعب... تذكروا، أيها الرفاق الجنود، أن التحالف الأخوي وحده، بين الطبقة العاملة والجيش الثوري، سيحمل الحرية للشعب المظلوم الذي يهلك. عاش التحالف الأخوي بين الجيش والثورة والشعب". وفي المساء تمردت سرية من الحرس الملكي، وفتحت النار على رجال الشرطة الذين كانوا يطلقون الرصاص على العمال[1].

وفي 27 فبراير أخذت القوات العسكرية تنحاز إلى جانب الشعب الثائر جماعات جماعات. وفي منتصف النهار استولى العمال على مستودع الأسلحة وتسلحوا بالبنادق. انتقلت إلى جانب الثورة وحدات عسكرية أخرى (زهاء 70 ألف جندي). وقبيل المساء كانت المدينة في يد العمال والجنود الثائرين. وفي المساء تم اعتقال الوزراء القيصريين. وانتصرت الثورة.

وباءت بالفشل محاولة القيصرية لتحطيم الثورة بمساعدة القوات العسكرية، التي استُدعِيَتْ من الجبهة. وكان زعماء البرجوازية قد حذروا القيصر، في بداية الانتفاضة، من الخطر المحدق وطلبوا منه تقديم تنازلات. وكان رد نيقولاي الثاني أن دفع القوات تحت قيادة الجنرال إيفانوف للتنكيل بالشعب، وتوجه هو نفسه إلى بتروجراد. إلا أن هذه الحملة انتهت بنتيجة مخزية للقيصرية. فقد انتقلت القوات إلى جانب الشعب الثائر، وأوقف قطار القيصر في محطة دنو وتحول إلى بسكوف.

ذاع خبر ثورة بروليتاريا بتروجراد بسرعة في كافة أنحاء البلاد. واستحثت المنظمات البلشفية الجماهير على تأييد عمال بتروجراد. وفي 28 فبراير نزل عمال موسكو إلى الشوارع يساندهم جنود حامية موسكو. وقبيل مساء الأول من مارس كانت المدينة كلها في يد الثائرين. تم إطلاق المعتقلين السياسيين والاستيلاء على مستودع الأسلحة ومحطات السكك الحديدية. واندلعت في الدونباس وسيبيريا والأورال ونيجني نوفغورود انتفاضات الجنود والعمال. وهب الجنود والبحارة. وهكذا انتصرت الثورة في البلاد بأسرها.

أسباب وطابع ثورة فبراير والقوة المحركة لها

كانت ثورة فبراير ثورة برجزوازية ديموقراطية وكانت أمامها مهمات لم تحققها ثورة 1905 ـ 1907، أي إجراء تحويلات ديموقراطية في نظام الدولة، وتوسيع الحقوق السياسية للشعب، وإقامة الحريات الديموقراطية، وتخفيض ساعات العمل إلى ثمان ساعات، وحل المسألة الزراعية. وكانت ثورة شعبية من حيث القوى المحركة لها. فقد صب، في سيل عارم واحد، نضال البروليتاريا وحركة الفلاحين والإضرابات في الجيش والأسطول وحركة التحرر الوطني لشعوب روسيا.

وكانت البروليتاريا الروسية صاحبة المبادرة، قائدة الثورة، الأمر الذي ضمن انتصارها بسرعة فائقة، إذ أن الجماهير الشعبية، وخاصة البروليتاريا الروسية، كانت قد مرت بمدرسة النضال السياسي الكبرى، وصلب عودها في نيران الثورة الروسية الأولى. لقد فقدت القيصرية نهائياً مبررات وجودها، وأصبحت مكروهة من قبل الشعب بأسره. ولم يلاق الحكم المطلق في البلاد أية مساندة فعالة، فانهار.

ثالثاً: ازدواج السلطة

تشكيل مجالس سوفييتات نواب العمال والجنود

كانت بروليتاريا بتروجراد قد بدأت، أثناء الثورة، بتشكيل سوفييتات نواب العمال كهيئات للسلطة الثورية، بمبادرة من العمال أنفسهم، إذ أن فكرة السوفييتات كانت ماثلة في ذاكرة الشعب، منذ ثورة عام 1905. أيد البلاشفة بحماس مبادرة العمال، فتشكلت السوفييتات الموحدة لنواب العمال والجنود.

أجريت انتخابات مجلس سوفييت بتروجراد في 27 فبراير أي في أثناء الثورة، عندما كانت المعارك لا تزال دائرة في شوارع المدينة. وحصل المناشفة والاشتراكيون الثوريون على الأغلبية في هذه الانتخابات وترأسوا السوفييت. وتفسير ذلك أن حزب البلاشفة كان قد ضعف، خلال سنوات الحرب بسبب إجراءات القمع المتواصلة والاعتقالات والنفي، وكان بلاشفة بارزون كثيرون في المنفى أو المهجر، أما لجنة بتروجراد البلشفية فقد اعتقلت عشية الانتخابات. ولم يتعرض المناشفة والاشتراكيون الثوريون لمثل هذه التنكيلات من جانب القيصرية، فكانت لهم مراكز شرعية، مثل الكتلة المنشفية في مجلس الدوما، والتي استطاعوا بواسطتها أن يؤثروا على العمال.

ولم يشترك في الانتخابات أفضل قسم من العمال وأكثرهم وعياً، والذي كان تحت نفوذ البلاشفة؛ إذ أن هذا القسم من العمال كان يناضل، في هذه الأثناء، في شوارع المدينة ضد القوات القيصرية. وكان نظام الانتخابات في صالح المناشفة: فقد كانت المؤسسات الكبيرة حيث كان نفوذ البلاشفة قوياً ترسل مندوباً واحداً عن كل ألف عامل، في حين أن المؤسسات الصغيرة، حيث نفوذ المناشفة، كانت ترسل إلى السوفييت نائباً واحداً عن كل مؤسسة.

وأخيراً، كان الاشتراكيون الثوريون لا يزالون يتمتعون بنفوذ قوى بين الجنود. فسمح كل ذلك للمناشفة والاشتراكيين الثوريين أن يستولوا على قيادة سوفيت بتروجراد، في المرحلة الأولى من الثورة. ولكن نشاط المناشفة والاشتراكيين الثوريين لم يعكس المشاعر والمصالح الحقيقية للطبقة العاملة.

كانت السلطة الحقيقية كلها في يد السوفييت، بما فيها الوحدات العسكرية وفصائل العمال المسلحة. وكانت السوفيتات عملياً تحقق ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديموقراطية الثورية. كان عدد البلاشفة في سوفيت بتروجراد قليلاً. ولكنهم وقفوا مدافعين عن مكاسب الثورة، وتحت تأثيرهم اتخذ السوفييت، في عدد من الحالات، قرارات ثورية. وأيد السوفييت مبادرة العمال لتشكيل ميليشيا عمالية، في المعامل والمصانع، أصبحت فيما بعد جنين الحرس الأحمر[2]، كما وضع السوفييت، تحت إشرافه، بنك الدولة ودار سك النقود، ومنع صدور بقية الصحف، وأخذ يصدر جريدته اليومية "أزفيستيا". وأنشئت لجنة التموين، التي كانت تراقب توزيع الخبز وغيره من المواد الغذائية في المدينة. وأخذ السوفييت يمارس المراقبة على صرف أموال الدولة.

ويشهد على قوة السوفييت ونفوذه، أن رودزيانكو الرئيس السابق لدوما الدولة، وأحد منظمي الحكومة المؤقتة، لم يستطع أن يذهب إلى بسكوف للاجتماع بالقيصر، دون إذن السوفييت، بل أنه رفض الذهاب إلى دائرة التلغراف، للتحدث مع القيصر، دون حراسة من السوفييت. ولكن سوفييت بتروجراد لم يصبح حكومة ثورية مؤقتة؛ فقيادة السوفييت المؤلفة من الاشتراكيين الثوريين والمناشفة اتخذت موقفاً انتهازياً. فقد رأى المناشفة والاشتراكيون الثوريون أنه ما دامت الثورة ذات طابع برجوازي ديموقراطي، فيجب إذن أن ترأسها البرجوازية، باعتبارها طبقة أكثر تنظيماً وخبرة بالإدارة. مع وجود "مراقبة" السوفييتات على الحكومة البرجوازية. وقد نادى البلاشفة وحدهم بإنشاء حكومة ثورية، من ممثلي الأحزاب الداخلة في السوفييت. واستطاع المناشفة والاشتراكيون الثوريون أن يمرروا قرارهم، وأن يتفقوا مع البرجوازية من خلف ظهر الطبقة العاملة.

وتفسير النفوذ الملحوظ الذي كان يتمتع به المناشفة والاشتراكيون الثوريون بين الجماهير هو أنه في سنوات الحرب تغير تركيب الطبقة العاملة بشدة. فقد التحق بالجيش قسم كبير من العمال، الذين مروا بمدرسة النضال الثوري الكبيرة. وجاء 40 بالمئة منهم تقريباً من الريف أو كانوا من فئات برجوازية صغيرة في المدن.

تشكيل الحكومة البرجوازية المؤقتة

أخذ تطور الثورة السريع البرجوازية على غرة. وكانت تأمل في البداية عقد صفقة مع الحكم القيصري. ولكن عندما تقرر انتصار الثورة أسرعت البرجوازية لاستلام زمام المبادرة في يدها. وفي 27 فبراير تشكلت لجنة دوما الدولة المؤقتة برئاسة الإقطاعي رودزيانكو. وأعلنت اللجنة المؤقتة في بيانها أنها تأخذ على عاتقها مبادرة "إعادة النظام الحكومي والاجتماعي" وتشكيل حكومة مؤقتة. وحاول الزعماء البرجوازيون إنقاذ الملكية، عن طريق تسليم السلطة، إلى شخص آخر من العائلة القيصرية، وأخذوا يجرون مفاوضات مع القيصر. وبالفعل في 2 مارس تنازل نيقولاي الثاني عن العرش لأخيه ميخائيل. لكن ميخائيل اضطر في اليوم التالي تحت ضغط الجماهير الثورية للتخلي عن العرش كذلك.

وبسبب الخوف من غضب الشعب تخلت البرجوازية عن مخططاتها المعادية للثورة. قال رودزيانكو بكل صراحة: "إن إعلان الأمير الكبير إمبراطوراً سيصب الزيت على النار وسيبدأ الطوفان الذي لا يرحم. وسنخسر كل سلطة، ولن يكون هناك من يهدئ الاضطراب الشعبي". وهكذا أحبطت الجماهير الشعبية محاولة البرجوازية للإبقاء على النظام الملكي.

وساعد المناشفة والاشتراكيون الثوريون البرجوازية على أن تحتفظ في يدها بالسلطة. ففي 2مارس تشكلت الحكومة المؤقتة، نتيجة الاتفاق بين زعماء البرجوازية وقيادة سوفييت بتروجراد المؤلفة من المناشفة والاشتراكيين الثوريين. ورأس هذه الحكومة الأمير لفوف، وكان ضمن هيئتها رأسماليون كبار أمثال غوتشكوف وكونوفالوف وتيريشينكو. وعُين ميليوكوف، زعيم حزب الكاديت والصحافي البرجوازي والمؤرخ، وزيراً للخارجية. ومثل "الديموقراطيين" في هذه الحكومة الاشتراكي الثوري كيرينسكي.

كانت هذه حكومة البرجوازية والإقطاعيين. وقد سماها لينين شبه ملكية وقال إنها لن تعطي الشعب لا الأرض ولا السلام. وأغفلت الحكومة المؤقتة في بيانها أكثر المسائل إلحاحاً، أي إقامة الجمهورية ووقف الحرب الإمبريالية وتطبيق ساعات عمل ثمان.

ازدواج السلطة وجوهرها الطبقي

وهكذا نشأ في البلاد ازدواج السلطة. فمن جانب كانت تتمتع بالسلطة الواقعية سوفييتات نواب العمال والجنود (واعتباراً من مارس أخذت تظهر في كل مكان كذلك سوفييتات نواب الفلاحين) وهي هيئات ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديموقراطية الثورية. ونتيجة للموقف الذي وقفه الاشتراكيون الثوريون والمناشفة استطاعت البرجوازية أن تشكل حكومتها، ولكن الطبقة العاملة لم تسمح بإقامة سلطة البرجوازية وحدها.

وسعت الحكومة البرجوازية المؤقتة إلى أن توقف التطور اللاحق للثورة، وإلى أن تستغل مكاسبها لصالح البرجوازية. وكان الاشتراكيون الثوريون والمناشفة، الذين رأسوا سوفييت بتروجراد، مؤيدين للبرجوازية. إلا أن السوفييت أجرى تحويلات ثورية وديموقراطية تحت ضغط الجماهير الثورية. وتحققت حريات برجوازية: حرية التعبير والنشر والاجتماعات وغيرها. وطبق العمال، دون إذن من السلطات، ساعات عمل ثمانية، وأقاموا رقابة على الإنتاج، وأسسوا الحرس الأحمر.

وقد سعت الحكومة المؤقتة إلى أن تُخضع الجيش لها؛ فحاولت في أول الأمر، أن تعيد الجنود إلى الثكنات وأن تخضعهم للضباط القيصريين السابقين وأن تتابع الحرب حتى النصر النهائي. فأصدر سوفييت بتروجراد في الأول من مارس، معبراً عن مطالب العمال والجنود، الأمر الرقم [1] الذي ألغى الأنظمة القيصرية في الجيش ومنح الجنود حقوقاً مدنية، واقترح تشكيل سوفييتات جنود منتخبة في الوحدات العسكرية تراقب نشاط الجنرالات والضباط. وكانت لهذا الأمر أهمية كبيرة في جعل الجيش جيشاً ثورياً.

الأهمية التاريخية لثورة فبراير

انتصرت ثورة فبراير البرجوازية الديموقراطية في روسيا. وأطيح بالحكم المطلق وأصبحت روسيا جمهورية برجوازية. وتحقق عدد من التحولات البرجوازية مثل: الديموقراطية، حرية التعبير والنشر والاجتماعات والأديان، وأُعلن عفو سياسي عام. وخرجت إلى النشاط العلني جميع الأحزاب غير المشروعة. وأظهر الحزب البلشفي نشاطاً كبيراً في توعية الجماهير وفضح البرجوازية ومؤيديها من المناشفة والاشتراكيين الثوريين. وبدأت مرحلة التطور التالي للثورة والانتقال إلى الثورة الاشتراكية. وبعد بضعة أشهر حققت الطبقة العاملة، بالتحالف مع الفلاحين وتحت قيادة الحزب البلشفي وقائده لينين، ثورة نوفمبر الاشتراكية الكبرى، التي فتحت عهداً جديداً في تاريخ العالم.

عودة لينين والتمهيد لثورة أكتوبر 1917

مجالس السوفيتات

في 2مارس 1917 تشكلت حكومة مؤقتة برجوازية، برئاسة الأمير لفوف، وتنازل القيصر لأخيه الأمير ميخائيل. ولكن ميخائيل تنازل، في اليوم التالي، وتقرر عقد مجلس تأسيسي لتحديد شكل الدولة الروسية المقبل. وفي 8 مارس تم تحديد إقامة نيقولا الثاني، وفرض الإقامة الإجبارية على العائلة الإمبراطورية في تساركويه سيلا. وكان هناك ازدواج واضح في السلطة بين الحكومة المؤقتة والسوفيتات المنتشرة في كل أنحاء البلاد.

طالب الشعب الروسي، بعد نجاح الثورة، بإنهاء الحرب التي كانت روسيا تخوضها إلى جانب الحلفاء، وإقرار السلام، وإلغاء ملكية كبار ملاك الأرض، وتخفيض ساعات العمل، كما طالب بإطلاق الحريات الديموقراطية، إلاّ أن الحكومة المؤقتة تجاهلت مطالب الشعب، ووصل بها الأمر إلى حد أنها لم تعلن إلغاء النظام الملكي، انتظاراً لأول فرصة تمكنها من إعادة القيصر إلى عرش روسيا. وأعلنت في 27 مارس عن عزمها على متابعة الحرب "حتى النصر النهائي". ورفضت مجالس السوفييتات، التي يهيمن عليها ممثلو البرجوازية الصغيرة (المناشفة، والاشتراكيون الثوريون، والفوضويون)، أخذ زمام السلطة بيدها.

عودة لينين إلى روسيا

بسبب تمتع البلاشفة بتأييد الشعب أصبح الطريق ممهداً أمامهم للاستيلاء على السلطة، دون إراقة دماء، ودون الحاجة إلى تفجير ثورة مسلحة. وفي الثالث من أبريل عام 1917 عاد لينين من منفاه في سويسرا، داخل عربة قطار مغلقة، حملته مع ثلاثين من الثوار المنفيين، عبر ألمانيا وبإذن من حكومتها. وفي اليوم التالي أطلع قادة الحزب البلشفي على خطته الرامية إلى الانتقال بالثورة من مرحلتها البرجوازية الديموقراطية إلى الثورة الاشتراكية. وبعد ثلاثة أيام من وصول لينين، نشرت "البرافدا"، جريدة الحزب البلشفي التي انتقلت بعد الثورة البرجوازية من السرية إلى العلن، مقالات لينين التي تشير إلى انتهاء المرحلة الأولى من الثورة، التي أوصلت البرجوازية إلى السلطة، وبداية المرحلة الثانية، التي يجب أن تنتهي بانتقال السلطة إلى أيدي الطبقة العاملة المتحالفة مع الفلاحين الكادحين، وإلى ضرورة تحول الثورة البرجوازية الديموقراطية، إلى ثورة اشتراكية، وطالب لينين باتباع تكتيكات مؤداها: عدم الثقة بالحكومة المؤقتة، وعدم مساندتها، مع فضحها أمام الشعب نظراً لأنها أدارت ظهرها لمطالبه في السلام والخبز والحرية والأرض. وإقناع الشعب بأن سوفييتات نواب العمال والجنود هي المؤهلة للاستجابة إلى مطالب الشعب وتحقيقها. ومن هنا رفع الحزب البلشفي شعار: "كل السلطة للسوفييتات". ووضع لينين منهاجاً لنشاط السوفييتات تضمن ما يلي:

1.    على الصعيد الدولي: النضال في سبيل عقد صلح ديموقراطي عام.

2.    على الصعيد الاقتصادي: تأميم جميع المصارف، وإنشاء مصرف شعبي موحد. وتأميم احتكارات السكر والتعدين، وفرض رقابة السوفييتات على إنتاج وتوزيع السلع.

3.    على الصعيد الزراعي: مصادرة أراضي الملاك دون أي تعويض، وتأميم جميع الأراضي الزراعية في روسيا.

4.    على الصعيد القومي: منح شعوب الأقاليم، التي تسيطر عليها روسيا، حق تقرير المصير.

المؤتمر الثاني للحزب البلشفي

في 24 أبريل، انعقد المؤتمر الثاني للحزب البلشفي الروسي، فصادق على خطة لينين للانتقال إلى الثورة الاشتراكية. وبدأ الحزب نشاطاً ضخماً بين جماهير الشعب الروسي، لتعبئتها في وجه الرأسمالية، وإنجاز الثورة الاشتراكية. وفي أول مايو عام 1917، احتفل العمال الروس بعيد العمال العالمي، لأول مره بشكل علني. وفي هذه الاحتفالات تعالت الأصوات تندد باستمرار الحكومة الروسية في الحرب. وفي اليوم التالي خرجت مظاهرتان في شوارع بتروجراد: الأولى صغيرة الحجم، تحركها الحكومة المؤقتة، وتدعو إلى الاستمرار في الحرب، والثانية بلشفية، ضمت نحو مائة ألف عامل، تطالب بنقل السلطة للسوفييتات. وفي هذه الظروف هرع المناشفة والاشتراكيون الثوريون إلى مد يد المساعدة للحكومة، فشاركوا في 5 مايو في تشكيل حكومة مؤقتة ائتلافية، من ممثلي الأحزاب البرجوازية (الكاديث أساساً)، برئاسة الأمير لفوف.

وتوالت مظاهرات الاحتجاج ضد الحكومة في موسكو وفي الأورال وفي المراكز الصناعية الأخرى. وأخذت قطاعات واسعة من العمال والجنود في بتروجراد تنفض من حول الاشتراكيين الثوريين والمناشفة. وبدأ العمال يقيلون من السوفييتات النواب المناشفة والاشتراكيين الثوريين، ليحلوا مكانهم نواباً بلاشفة. وازداد مع الأيام عدد المؤيدين للبلاشفة بين عمال وجنود بتروجراد، وعلى الرغم من تعاظم نفوذ الاشتراكيين الثوريين والمناشفة. واتضح ذلك جلياً في المؤتمر الأول للسوفييتات المنعقد في بتروجراد في 3 يونيه 1917. فقد حضر جلسات المؤتمر زهاء ألف مندوب، لم يكن البلاشفة يمثلون منهم سوى أكثر من العُشر بقليل. واستغل المناشفة والاشتراكيون الثوريون أغلبيتهم هذه، ومرروا في المؤتمر مشروعهم بتأييد سياسة التحالف مع البرجوازية. ورد البلاشفة بالدعوة إلى إقامة مظاهرة في بتروجراد، في العاشر من يونيه. إلاّ أن المؤتمر منع المظاهرة، تجنباً للصدام مع السوفييتات. وفي محاولة لامتصاص نقمة العمال، عاد المؤتمر وقرر إقامة مظاهرة في الثامن عشر من يونيه، ولكن تحت شعار الثقة في الحكومة المؤقتة. ودعا البلاشفة العمال إلى الاشتراك في هذه المظاهرة، تحت شعار "كل السلطة للسوفييتات". وفي اليوم الموعود تجمع نحو (500) ألف من العمال والجنود، سارت أغلبيتهم تحت الشعار البلشفي، في حين رفعت قلة لافتة "الثقة" بالحكومة.

هجوم على القوات الألمانية

لجأ زعماء البرجوازية إلى حيلة لوأد الثورة. فقرروا شن هجوم عسكري على القوات الألمانية، فإذا نجح هذا الهجوم، توطدت سلطة الحكومة، مما يسهل عليها مهمة قمع القوى الثورية، أما إذا فشل، فستلقي اللوم على البلاشفة، الذين يقفون ضد الحرب ويفسدون معنويات الجيش الروسي. وجاء توقيت الهجوم موافقاً ليوم قيام المظاهرة.

ولقد منى الهجوم الروسي بقيادة الجنرال بروسيلوف، وتحت إشراف وزير الحربية كيرنسكي، بفشل ذريع، مما أعطى الفرصة للقوات الألمانية كي تشن هجوماً مضاداً، وتستولي على رقعة واسعة من الأراضي الروسية، وعلى كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر، كما أسرت العديد من الجنود الروس. وخسرت القوات الروسية نحو (60) ألف بين قتيل وجريح.

وفي الثاني من يوليه ترك وزراء الكاديت الحكومة الائتلافية المؤقتة. وبدأت الحكومة الروسية في تنفيذ خطتها، فشددت الصحافة الموالية لها الهجوم على البلاشفة، بدعوى أنهم أحبطوا الهجوم الروسي بدعاياتهم ضد الحرب. إلا أن سخط الجماهير سرعان ما انفجر بصورة عفوية، ففي 3 يوليه نظم جنود فوج الرماة الأول المرابط في بتروجراد، مظاهرة مسلحة ضد الحكومة، وأرسلوا مندوبيهم إلى المصانع وإلى بقية أفواج حامية بتروجراد، يحثونهم على الانضمام إلى المظاهرة. وانضم إليهم في مساء 23 يوليه جنود (9) قطاعات عسكرية، إضافة إلى بحارة كرونشتادت وعمال المصانع، الذين تجمعوا في ساعة متأخرة من الليل، أمام قصر توريد، وأخذوا يطالبون بإسقاط الحكومة المؤقتة وتسليم السلطة للسوفييتات. وكان البلاشفة بقيادة لينين قد عارضوا القيام بالمظاهرة، إذ رأوا أن الظروف لم تنضج بعد لإسقاط الحكومة. فالقوى الثورية الموجودة في العاصمة تكفي للاستيلاء على السلطة، إلا أن الحفاظ على هذه السلطة كان مستحيلاً، بسبب ثقة البلاد وقوات الجبهة بالحكومة، مما يجعل وقوف أغلبية الشعب ضد الثورة أمراً مرجحاً. إلاّ أن البلاشفة عجزوا عن كبح جماح الجماهير الهائجة، وقرروا السير في مقدمتها لتنظيمها.

الحكومة المؤقتة تستخدم العنف

وفي الرابع من يوليه خرج أكثر من نصف مليون شخص إلى الشوارع، تحت شعار "كل السلطة للسوفييتات". وضمت المظاهرة فصائل من الحرس الأحمر ومن بحارة كرونشتادت والجنود الثوريين. وتردد زعماء اللجنة التنفيذية للسوفييت، وتمركزت الحكومة المؤقتة في قصر ماري، واستقدمت من جبهة القتال فرقة الخيالة 14، وفوج قوزاق الدون، وفرقة من الأوهالانس، وفوج أيسبورسكي 177، وفوج مالوروسيسكي، وفتحت هذه القوات النار على المظاهرة وشتتت الجنود والعمال. وفي 4 ـ 5 يوليه حطمت الفصائل الموالية للحكومة مقر صحيفة "البرافدا" ومطبعتها. وعهدت الحكومة إلى فصيلة خاصة من اليونكرز (طلبة المدارس العسكرية) بالبحث عن لينين واعتقاله أو قتله. إلا أن لينين تمكن من الاختفاء مع عدد من قادة البلاشفة.

وحاولت الحكومة المؤقتة إقامة ديكتاتورية للثورة المضادة، وشنت حملة اعتقالات واسعة، في الشهر نفسه ضد البلاشفة، وسحبت الوحدات العسكرية الثورية من بتروجراد، وأرسلتها إلى الجبهة. وفي الجيش أعيد العمل بعقوبة الإعدام في 27 يوليه. واعتقل آلاف الجنود لرفضهم تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم، وأُعدم العديد منهم رمياً بالرصاص. وانتقلت السلطة بكاملها للبرجوازيين. عندها تأكد الحزب البلشفي أن إمكانية وصول العمال والفلاحين الكادحين إلى السلطة بطريقة سلمية قد تلاشت.

المؤتمر السادس للحزب البلشفي

استبدل البلاشفة تكتيكاتهم بما يتلاءم مع الأوضاع الجديدة، فمنذ يوم 27 يوليه وحتى بداية أغسطس، انعقد في بتروجراد؛ بصورة شبه سرية، المؤتمر السادس للحزب البلشفي، الذي بلغت عضويته آنذاك (24) ألف عضو. وقرأ ستالين التقرير السياسي الذي أعده لينين، الغائب عن المؤتمر. وفيه أن من المستحيل على الطبقة العاملة الروسية الحصول على السلطة بصورة سلمية، بل لا يمكن الاستيلاء على السلطة إلا بالقوة، بعد إسقاط حكومة الثورة المضادة. ورأى لينين أن شعار "كل السلطة للسوفييتات" لم يعد يناسب الوضع الجديد، بعد أن أصبحت السوفييتات ذيلاً للحكومة البرجوازية. ودعا لينين المؤتمر إلى تشديد الكفاح لكسب السوفييتات إلى جانب البلاشفة. وأقر المؤتمر خطة إعداد الانتفاضة المسلحة لإسقاط حكم الرأسمالية. وصادق المؤتمر على خطة الحزب الاقتصادية، التي صاغها لينين فيما عرف بـ"موضوعات لينين". وهي التي رأت أن اقتصاد روسيا يتدهور، وأن الشعب يعاني من الجوع والفقر المدقع، وأن قيمة النقد الروسي في هبوط مستمر، في حين اشتدت التبعية لرأس المال الأجنبي، مما حول روسيا إلى شبه مستعمرة للإمبرياليين الأجانب. وانتهت الخطة إلى أن إنقاذ روسيا لا يتم إلاّ بإسقاط الحكومة البرجوازية، وبنقل السلطة إلى الطبقة العاملة والفلاحين الكادحين.

وفي هذا المؤتمر ضمت إلى الحزب الفرقة، التي كان يرأسها تروتسكي، كما ضم الجناح اليساري من المناشفة و" الانتر ـ ديستريكت". ودعا المؤتمر إلى مضاعفة النشاط وسط الجماهير الروسية وتوحيد صفوف كل القوى الثورية الروسية، من أجل إسقاط ديكتاتورية البرجوازية. وفي الأول من أغسطس نُفي نيقولا الثاني وعائلته إلى طوبولسك في سيبيريا (وبقي هناك حتى اُعْدِمَ في عام 1918).

في خريف 1917 أوصلت سياسة الحكومة المؤقتة روسيا إلى حافة كارثة وطنية، بعد أن اتسعت أعمال التخريب في الصناعة وفي وسائط النقل، وتناقصت المواد الخام والوقود مما تسبب في إغلاق مئات المصانع، وانتشرت البطالة بين العمال، واختفت معظم مواد التموين الرئيسية، وارتفعت أسعار كل السلع، وكادت البلاد أن تصل إلى الإفلاس، بعد أن أغرقت الحكومة المؤقتة الأسواق بالعملة الورقية دون غطاء ذهبي، واعتمدت الحكومة المؤقتة بالكامل، على القوى الاستعمارية الغربية، حتى وصلت ديونها من هذه الدول إلى حوالي 60 مليار روبل من الذهب، ووقعت إضرابات عمالية واسعة، وتوقف (700) ألف من عمال السكك الحديدية عن العمل، مطالبين بتحسين شروط حياتهم، وما كادت الحكومة تتفاهم مع هذا الإضراب حتى أضرب عمال التعدين والأحذية، وتبعهم (300) ألف من عمال النسيج. وتميزت هذه الإضرابات عما سبقها من إضرابات، بطرد العديد من أصحاب العمل، واستيلاء العمال على إدارة المصانع. واشتعلت ثورات الفلاحين في سائر أنحاء روسيا.

محاولة القيام بانقلاب عسكري

وفي 21 أغسطس سقطت ريغا في يد الألمان. واستغل الجنرال كورنيلوف، القائد العام للجيش الروسي، هذه الفرصة وحاول القيام بانقلاب عسكري في 27 أغسطس لإقامة ديكتاتورية عسكرية. وتحركت قواته باتجاه العاصمة. وهنا تضافر البلاشفة مع الحكومة، وأحبطوا المؤامرة الانقلابية. وألقى القبض على كورنيلوف. وعُين كيرنسكي قائداً عاماً للجيوش الروسية في 30 أغسطس، مما أجج حركة الفلاحين، فهبوا يطالبون بالأرض، واستولوا في الشهر نفسه، على (440) ضيعة من أراضي كبار الملاك. وفي الشهر التالي فرضوا سيطرتهم على (958) ضيعة أخرى. وفي 31 أغسطس وافق سوفييتات بتروجراد على مشروع قرار قدمه النواب البلاشفة بنقل السلطة إلى السوفييتات، فسارع كيرنسكي، في أول سبتمبر، إلى تشكيل حكومة من خمسة أعضاء، وأُعلنت الجمهورية الروسية. وفي 5 سبتمبر وافق سوفييتات موسكو على قرار مماثل، وتوالت بقية السوفييتات في تبني قرارات مماثلة. وانحازت حاميتا بتروجراد وموسكو إلى صف البلاشفة، وحدث الشيء نفسه مع أسطول البلطيق، ومع جنود الجبهتين الشمالية والغربية. وتعاظمت حركة التحرر القومي في الأقاليم التي تهيمن عليها روسيا. وفي الوقت نفسه كانت الحكومة المؤقتة تعاني أزمة مستمرة في السلطة، حاولت التغلب عليها من خلال التغيير المستمر في مجلس الوزراء. وعمت الفوضى صفوف المناشفة، وانفصل عنهم فريق سمى نفسه "الاشتراكيون الديموقراطيون الأمميون"، وطالب هذا الفريق بضرورة التحالف مع البلاشفة، وظهر جناح يساري في الحزب الاشتراكي الثوري، سرعان ما تبلور في حزب "الاشتراكيين الثوريين اليساريين"، وبادر إلى التحالف مع البلاشفة. وتطور الموقف، حين رفضت "القاعدة" العيش بالطريقة القديمة، في حين عجزت "القمة" عن الحكم بالطريقة القديمة. ودولياً، كانت الق وى الإمبريالية مشتبكة مع بعضها البعض في حرب ضارية، ولم يكن بوسعها وقف هذه الحرب والتفرغ لوأد الثورة في روسيا. وبذا تكون الأزمة الثورية قد نضجت، إذ أصبحت الظروف مواتية لإشعال الثورة المسلحة ضد الحكومة المؤقتة.

 



[1] فوج بافلوفسكي من الحرس الملكي، إحدى القطاعات العسكرية ذات الامتياز في روسيا القيصرية. فالكلمة ملكي كانت تضاف كذلك إلى أسماء أفواج الجيش الروسي التي كان القيصر يشرف عليها.

[2] الحرس الأحمر ـ هو القوات المسلحة للبروليتاريا أثناء ثورة أكتوبر 1917 في روسيا وفي مرحلة قمع التمردات المسلحة ضد الجمهورية السوفييتية الفتية. وكانت فصائل الحرس الأحمر أساساً لتشكيل وحدات الجيش الأحمر. وفي أبريل عام1918 إندمجت كلياً في الجيش الأحمر.