إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / المملكة العربية السعودية بعد الملك عبدالعزيز









الفصل الأول

الفصل الأول

عهد الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود

(1373 ـ 1384/ 1953 ـ 1964)

 

1. مظاهر نهضة البلاد السعودية في عهد الملك سعود

تولى الملك سعود الحكم، في المملكة العربية السعودية، على أثر وفاة والده الملك عبدالعزيز، في يوم 2 ربيع الأول 1373/9 نوفمبر 1953. وأخذ البيعة من العلماء والأمراء والرعية. وحكم البلاد مدة أحد عشر عاماً، من 1373/ 1384 / 1953 ـ 1964. نهضت البلاد في عهده نهضة ملموسة في جميع مرافقها الحيوية، وذلك بفضل زيادة الدخل من النفط، وروح التعاون بينه وبين ولي عهده، الأمير فيصل بن عبدالعزيز، الذي أنابه الملك سعود عنه في رئاسة مجلس الوزراء، ثم أسند رئاسة المجلس إليه بالمرسوم رقم 5/20/1/6499، في 16 ذي الحجة 1373[1]، فأطلق فكره ويده في إدارة دفة الحكم. فكان من أثر ذلك التعاون المخلص، أن سارت أمور البلاد في طريق التطور، وشهدت أعمالاً وإصلاحات جمة في ميادين النشاط الاقتصادي، والعمران الداخلي، والتعليم، والطرق والمواصلات، وحققت نجاحات في مجال السياسة الخارجية.

كما ازدهر التعليم في عهد الملك سعود؛ لاهتمامه بالعلم وحرصه عليه. فقد أنشأ وزارة المعارف، لأول مرة في ربيع الثاني عام 1373/أول يناير 1954. وافتتحت المدارس، في شتى المدن والقرى، واستقدم المدرسون من مصر والشام والعراق، للتدريس. وأرسلت البعثات المتتابعة من أبناء السعودية، إلى الجامعات في مصر وأوروبا.

وأمر الملك سعود بإنشاء أول جامعة في المملكة، وفي منطقة الخليج والجزيرة العربية، وهي جامعة الملك سعود، التي بدأت بكلية الآداب، وذلك عام 1377 / 1957. وبعدها بسنة واحدة، أنشئت كلية العلوم. وفي عام 1379/ 1959 أنشئت كلية التجارة. أما كلية الصيدلة، فقد أنشئت في العام الدراسـي 1380 ـ 1381/ 1960 ـ 1961، لتصبح الكلية الرابعة في جامعة الملك سعود.

ثم أمر الملك سعود، بإنشاء معهد ديني، للطلاب الوافدين من الدول الإسلامية، صار نواة للجامعة الإسلامية، التي أسست في المدينة المنورة، في 25 ربيع الأول عام 1381/1961. وصدر أمره، كذلك، بإنشاء كلية البترول والمعادن بالظهران، في 11 جمادى الأولى 1383/29سبتمبر 1963، ثم افتتحت في 8 شوال 1384، واتجهت بالتعليم العالي نحو التقنية الواسعة. وهي اليوم، بعد أن توسعت وأنشئت فيها كليات تقنية أخرى، تسمى (جامعة الملك فهد للبترول والمعادن).

كما ابتدأ في عهد الملك سعود، التعليم الفني، بإنشاء المعهد الملكي الصناعي بالرياض، عام 1378/1959. وافتتح معهد التدريب المهني، في عام 1964.

وقد تأسس معهد الإدارة العامة عام 1383/ 1963؛ لتقديم التدريب والتطوير، للموظفين في دوائر الحكومة.

وأنشئت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، عام 1961، ومن مهامها، تقديم الرعاية لكبار السن والعجزة والأرامل والأيتام. وضمت، أيضاً، إدارة لرعاية الشباب. كما صدر، في عهده، نظام الضمان الاجتماعي عام 1962.

وفي عهد الملك سعود، ظهرت العناية بتعليم الفتيات، وخطت أولى خطواتها نحو تعليمهن. ولما فكرت الدولة، في عهده، أن يشمل التعليم في المملكة العربية السعودية الفتيات، أسوة بالبنين،اعترضت بعض فئات المجتمع بقوة، على مبدأ تعليم الفتاة أصلاً، في حين قام آخرون ينادون بجواز تعليم الفتيات، ولكن يجب ألا تتولى وزارة المعارف هذه المهمة، حتى لو أنشأت لهن مدارس خاصة بهن. وبعد بحث طويل، تقرر أن تتاح فرصة التعليم، أمام الفتيات السعوديات، وأن تقام لهن مدارس خاصة، من قبل الدولة، وأسست رئاسة عامة مستقلة، سميت الرئاسة العامة لمدارس البنات، ترأسها أحد المشايخ، هو الشيخ عبدالعزيز بن ناصر الرشيد، وكان يشرف عليها المفتي العام، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.

ولقد بدأ تعليم الفتاة، رسمياً، في المملكة العربية السعودية، سنة 1380 /1960، وافتتحت المدارس، وأنشئت معاهد المعلمات؛ للإسراع في تخريج المدرسات.

كما اهتم الملك سعود، بالإذاعة السعودية، في مكة المكرمة، ففي يوم الثلاثاء 8 صفر عام 1377/ 3 سبتمبر 1957، افتتح محطة مكة المكرمة، بعد تقويتها إلى خمسين كيلووات.

وشجع الملك سعود الصحافة، فصدرت جريدة اليمامة، من الرياض، وصحيفة البلاد السعودية، من جدة. وشهدت الحركة الأدبية نمواً ملحوظاً، من خلال توفر وسائل النشر، في الصحف وفي الإذاعة. وصارت الصحف تعالج مواضيع أدبية واجتماعية كثيرة.

وصدر في عهده نظام المقاطعات، أي نظام الإدارة المحلية في مقاطعات البلاد، في 21 جمادى الأولى عام 1383/ أكتوبر 1963، وقد أعدته الحكومة، التي كان على رأسها الأمير فيصل، ولي العهد.

ومن أوجه التطور في عهد الملك سعود، أن ربطت البلاد بشبكة من الطرق البرية، وبُذل الاهتمام نحو الطرق الزراعية، التي تخدم القرى والمزارع.

وطورت المطارات، في الرياض، والظهران، وجدة، والطائف، وتبوك، وحائل، والقصيم، وكان مطار الرياض هو المطار الرئيسي، ومطار جدة ومطار الظهران دوليين.

وافتتح ميناء الملك عبدالعزيز، بالدمام والذي كان أضخم الموانىء على الخليج العربي، في ربيع الأول 1381/أغسطس 1961.

وظهر الاهتمام بالجيش، من خلال البعثات للتدريب والدراسة، في الخارج، وخصوصاً إلى مصر، وتزويده بالأسلحة، وتقوية سلاح الطيران، وإنشاء كلية الملك عبدالعزيز الحربية، بالرياض، عام رجب 1374/ مارس 1955.

وتطورت الخدمات الصحية، بإنشاء مستشفى الرياض المركزي، والمختبر المركزي في الرياض، وإنشاء مستشفيات عامة في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والطائف، والدمام، ومستشفى الأمراض العقلية بالطائف، والاهتمام بمكافحة الملاريا، وبصحة البيئة.

وتأسس أول معهد صحي، في عهد الملك سعود، عام 1958 بالرياض، ثم توسعت الدولة، في هذه المعاهد، فأسس معهد في جدة، عام 1381/ 1962، وثالث في صفوى، بالمنطقة الشرقية، عام 1384/1965.

واهتمت الدولة، في عهد الملك سعود، بالزراعة، فتأسس البنك الزراعي؛ لتقديم القروض الميسرة للمزارعين، بدون فوائد، وأعفيت المعدات الزراعية من الرسوم الجمركية، وأقيمت السدود على الأودية؛ لحجز مياه الأمطار، خاصة في جيزان وأبها. وأقامت الوزارة عدداً من المشاريع؛ لتوفير مياه الشرب للمدن.

وقد اهتم الملك سعود، بتوسيع المسجد الحرام، بمكة المكرمة، وعمارته، فور الانتهاء من توسعة الحرم النبوي الشريف، التي بدأت في أواخر عهد الملك عبدالعزيز، واستمرت ثلاث سنوات، وانتهت في شهر صفر 1375/ أكتوبر 1955. وأصدر الملك سعود أمره إلى ولي عهده الأمير فيصل، بالبدء في توسعة بيت الله العتيق، وأصدر، لذلك، مرسوماً ملكياً بتعيين هيئة عليا؛ للإشراف على توسعة المسجد الحرام، برئاسة الأمير فيصل، رئيس مجلس الوزراء. كما صدر مرسوم ملكي، باعتماد الخارطة النهائية لمشروع توسعة الحرم الشريف، التي تجري بموجبها أعمال هدم جميع البيوت المحيطة بالحرم الشريف، بعد أن اشتراها الملك من أصحابها لهذه الغاية. وكان المرسوم الملكي موجهاً من الملك إلى رئيس الوزراء، الأمير فيصل، ويقضي بتكليف الشيخ محمد بن لادن مدير عام الأبنية والإنشاءات، بتحمل مسؤولية القيام بهذا العمل الخالد، على النحو المتفق عليه. (انظر ملحق توسعة الحرم في عهد الملك سعود).

وكانت مساحة المسجد المكي الحرام، خمسة وثلاثين ألف متر مربع، وكان المسعى بين الصفا والمروة، منفصلاً عنه. وكان الساعون لا ينعمون النظر في الكعبة المشرفة، خلال سعيهم ذلك، لأن الدور المكدسة، والدكاكين القديمة المتراصة، كانت تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، فكان وجودها يتنافى وقدسية المشعر الحرام، وجلاله، وروعته.

وقد بلغت التوسعة الخارجية الجديدة، سبعين ألف متر مسطح، فصارت مساحة الحرم الشريف 105 آلاف متر مربع، تتسع لعدد من المصلين، يبلغ نصف مليون مصلٍ، يشاهدون، كلهم، الكعبة الشريفة، ويتراصون حولها من جوانبها الأربعة، عند كل صلاة. ويمكن هذا المشروع العظيم جميع الساعين، بين الصفا والمروة، من رؤية الكعبة الشريفة، خلال مسعاهم، بعد أن جدد المسعى، وأدخل في القسم الشرقي من المسجد الحرام، وأزيلت جميع الدكاكين والأبنية والمساكن، التي كان وجودها متنافياً مع قدسية هذا المشعر الحرام، ويعيق الساعين بين الصفا والمروة. وأحاطت بالحرم الجديد الشوارع الواسعة والميادين الفسيحة، والأماكن المعدة لمواقف السيارات، ومجموعات من دورات المياه، وأماكن الراحة، بحيث تكون بعيدة عن المسجد. وأقيمت في الأماكن البعيدة عن المسجد، المنشآت اللازمة لخدمة الحجاج، والإشراف على راحتهم وخدمتهم.

وهذه صورة مبدئية عن التصميمات الجديدة، والتخطيطات الفنية في مشروع عمارة المسجد الحرام وتوسعته، على أسس هذه المواصفات:

1.   التوسعة شملت المسجد الحرام، من جهاته الأربع.

2.   أحاطت بالمسجد الحرام بعد توسعته شوارع رئيسية، بعرض 20 متراً، من جميع الجهات.

3.   صممت في الجهات الأربع أربعة ميادين رئيسية، منها الميدان الواقع في جهة الصفا، وكانت دار الأرقم الأثرية في وسط الميدان.

4.   أدخل المسعى في المسجد الحرام، في مساحة 260 متراً تقريباً، من أصل 375 تقريباً، طول المسعى بكاملها، والباقي 115 متراً، خصص لإنشاء الحديقة.

5.   حجز الصفا والمروة عن المسجد الحرام، بأبواب ونوافذ من الزجاج السميك، بحيث يستطيع الساعي رؤية الكعبة المشرفة.

6.   أنشئت حديقة، على طول المسعى، تحجز المناطق التجارية عن المسعى، بعرض 20 متراً.

7.   أنشئت دورات المياه، حول الحرم الشريف، في الأركان الأربعة، تحتوي كل واحدة على 400 مرحاض وحمامات للغسل.

8.   أنشئت عدة مناطق وشوارع، تربط بين المسجد الشريف وأطراف البلدة.

9.   صممت للمسجد الحرام أبواب جديدة، محاذية للأبواب السابقة،إضافة إلى الأبواب، التي وضعت حسب التصميم الهندسي.

10. بلغت مساحة المسجد، حسب المواصفات الأخيرة، 80 ألف متر مسطح. وبنى طابق أعلى، فوق التوسعة، مساحته 40 ألف متر مسطح، وأصبحت مساحة المسجد، في مجموعها، 120 ألف متر مسطح.

11. قام الأختصاصيون والمهندسون، بإنشاء أربعة ميادين، في أركان المسجد الأربعة، شجرت على أحدث نسق، ولتخفيف حرارة الجو وتلطيفه إلى حد كبير. وهذه بلا شك عناية فائقة بالمصلين، وبحجاج بيت الله الحرام، خصوصاً الذين يفدون من البلاد الباردة.

12. بلغت مساحة المباني، التي نزعت ملكيتها للتوسعة، 20 ألف متر مسطح،وقد اهتمت الجهات المختصة حينما وضعت المشروع ،بدراسة الآثار الإسلامية البارزة، ومن بينها دار الأرقم، التي انبثقت منها الدعوة العلنية إلى الإسلام، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها؛ ليصلوا جماعة، غير عابئين بتحدي المشركين من قريش لهم، وإيذائهم.

وبالرغم من مظاهر النهوض بالبلاد، في عهد الملك سعود، فإن العجز الذي حصل في ميزانية الدولة، وقلة العملة الصعبة، بسبب النفقات الكبيرة على المشروعات، ومظاهر الإسراف في إنشاء القصور والمباني، حدّ من هذا التقدم والتطور، مما أدى إلى تباطؤ عجلة النمو الاقتصادي في البلاد.

فقد تجاوزت نفقات الدولة مواردها كثيراً، حتى اضطرت إلى عقد قروض كثيرة، بضمان شركة الزيت. وما كادت سنة 1377 تدخل، حتى حدث انهيار في قيمة الريال السعودي، وتزعزعت الثقة في النقد، بل في الحكومة نفسها.

وكان هنالك، تبذير كبير في المباني الحكومية، والقصور الملكية، وتخطيط " الرياض "، وغيرها من المشاريع، التي لا تخلو من فائدة، والتي كان يمكن أن تتم في عشر سنوات، بدلاً من ثلاث، وقد كان الإمكان أن يستمر هذا التدهور، لولا عناية الله، ثم يقظة الملك سعود وولي عهده.

لقد رأى الملك سعود أن يستعين بذوي الخبرة، لإصلاح الحال المالية، وإرسائها على قواعد ثابتة، فاستعان بالبنك الدولي، الذي أرسل اثنين من الخبراء، هما الأستاذ أحمد زكي سعد، وهو من مصر، والأستاذ أنور علي، من باكستان[2].

درس الاثنان حالة البلاد المالية، وسبب التدهور، ووضعا تقريرهما الأول، وهو يلقي اللوم الشديد على من تولوا الشؤون المالية، والذين لجؤوا إلى القروض الأجنبية، كلما أعوزهم المال، إلى أن وصلت الحكومة إلى ما وصلت إليه من تدهور. والتقرير، الذي نشر في 15 من رجب 1378 / 25 يناير 1959، درس الحالة المالية من جميع نواحيها، ويصف الحالة أصدق وصف. (انظر ملحق تقرير الخبير المالي الدولي زكي سعد، عن الوضع المالي للمملكة العربية السعودية).

ولتلافي ذلك، أسند الملك سعود رئاسة مجلس الوزراء، إلى أخيه الأمير فيصل، في رمضان 1377/ مارس 1958، ومنحه السلطات الكاملة، لرسم سياسة الدولة الداخلية والخارجية والمالية، والإشراف على تنفيذها. وتولى الأمير فيصل بنفسه وزارة المالية، إضافة إلى وزارة الخارجية. واستطاع الأمير فيصل أن يقود سياسة الدولة نحو التحسن والإصلاح المالي. لكن استقالة الأمير فيصل من رئاسة مجلس الوزراء، وإقالة الحكومة في أول رجب 1380/19 ديسمبر 1960، عاد بالحال إلى وضعه السابق.

2. سياسة الملك سعود الخارجية

لقد سار الملك سعود، على خُطى والده، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، من أجل السعي الجاد؛ لاتخاذ سياسة واضحة ومحددة، ليس تجاه العرب فقط، وإنما تجاه العالم الخارجي. وقد أبان في أحد تصريحاته، سياسة حكومته: "أحب أن أؤكد للجميع، أننا نحن العرب، نؤمن بالإخاء الإنساني، ونعتقده وندعو إليه. ولقد ساهم العرب والمسلمون، بقسط عظيم في انتشار الحضارة والمدنية والتقدم، في العالم. لهذا فإن دعوتنا إليه، وإلى حرية الشعوب، وممارستها حقوقها المعترف بها، ضمن الأنظمة العالمية المتعارف عليها، هو استمرار تقليدي لما يؤمل به العرب، في ماضيهم وحاضرهم.

وعلى هذا الأساس فإننا نؤمن بحقوق العرب، في أن يعيشوا في بلادهم أحراراً كراماً، وأن ينهلوا من التقدم البشري الإنساني، بجهودهم المستطاعة. وإنه لمن دواعي الشرف لي، ولإخوتي الأحرار، أن نسعى إلى هذه الغاية، التي نخدم فيها شعوبنا؛ لتجمع صفوفها المبعثرة، في وحدة عربية قومية شاملة، لتنظم فيها جميع العرب، في كل مكان من وطننا العربي الكبير المشترك بيننا، وأن تساهم هذه الوحدة المنشودة، التي نؤمن بها، ونسعى إليها، ونكافح جميعاً من أجلها، في استتباب الأمن والعدالة والحرية والمساواة، ورغد العيش للعالم بأسره. وإنني أود أن أؤكد، بأننا لا نرمي، من هذا العمل لوحدة صفوف العرب، وجمع كلمتهم ولم شملهم في وحدة كاملة، أي عدوان ضد أحد، وإنما نرمي بذلك إلى ممارسة حقوقنا في أوطاننا، أحراراً كراماً.

وإن من تحصيل الحاصل، أن أُعلن أن العرب قد ظلموا في كثير من أوطانهم، ومُنِعوا، بالقوة، من ممارسة حقوقهم الشرعية. وإننا، ومعنا إخواننا العرب الآخرون، نسعى بالطرق السلمية إلى إعادة حقوقنا المغتصبة. وإن فلسطين لتأتي في أول ما يتظلم العرب منه، ويسعون لإيجاد حل سلمي لإزالة الظلم. كما أن شمال أفريقية وجنوب الجزيرة العربية، وشرقها، لها من اهتمامنا ومساعينا واسترجاع حقوق أهلها، ما هو لفلسطين نفسها. وإنني أنتهز هذه الفرصة؛ لأوضح للضمير العالمي بواسطتكم، أننا قد ظُلمنا في فلسطين، وشمال أفريقية، والجزيرة، وجنوب الجزيرة العربية، وشرقها، وساعد في هذا الظلم أصدقاؤنا في الغرب، أولئك الذين صادقناهم، وحالفناهم، وجاهدنا معهم في كفاحهم لتحرير بلدانهم، في حربين، لجهود العرب فيهما الأثر العظيم، الذي شهدوا به أنفسهم، بما كان له من ترجيح كفة أصدقائنا ـ هؤلاء قد تناسوا جهود العرب، وزمالتهم لهم في السلاح، والكفاح فلم يفوا لهم بوعودهم".

إن هذا التصريح يدل على اهتمام الملك سعود، بأمور العرب والقضية الفلسطينية. وكان قد ألقى هذا التصريح، أمام وفد صحفي عالمي، بمناسبة الاحتفال بتسيير ناقلة الزيت السعودية، التي أطلق عليها اسم (الملك سعود الأول).

لم تقف جهود الملك سعود عند هذا الحد، بل وقف وقفة صارمة ضد التحالفات الغربية، التي كان الهدف منها تمزيق الوحدة العربية، مثل حلف بغداد 1955. فقد وقعت كل من بريطانيا، وباكستان، وإيران، وتركيا، والعراق، ما عرف بمعاهدة الشرق الأوسط، أو حلف بغداد. ولم توقع الولايات المتحدة الأمريكية على معاهدة الحلف، إنما حضر مندوبها بصفة مراقب ومؤيد للحلف. وعُدّ الحلف في نظر بعض المؤرخين الغربيين، محاولة من الغرب، لمد حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى الشرق الأوسط. وقد صرح الملك سعود لجريدة (الأهرام) المصرية، بما يأتي:

إن حكومة العراق أصابت الأمة العربية، بضرر بالغ، بانضمامها إلى حلف بغداد، الذي لا يمكن أن يكون عاملاً من عوامل صيانة السلام.

وقال: إن الدول العربية المحركة لهذا الحلف، لن تصل إلى أهدافها، ما دامت كتلة الدول العربية ودول الشرق الأوسط، لا تنضم إلى الحلف. وأكد الملك أنه واثق من أن الشعب العراقي نفسه، غير راض عن هذا الحلف ".

ومن جهة أخرى، وقع الملك سعود مع الرئيس المصري، جمال عبدالناصر والإمام أحمد، ملك المملكة المتوكلية اليمنية، ميثاق الدفاع المشترك، في جدة في 10 رمضان 1375/20 أبريل 1956. ثم تلته (اتفاقية التضامن العربي) في القاهرة في 18 جمادى الثانية 1376/19 يناير 1957، بين السعودية ومصر وسورية والأردن.

وكان موقف الملك سعود حازماً، إلى جانب دولة الكويت، عندما تعرضت في 25 يونيه 1961 للتهديد، من قبل حاكم العراق، اللواء عبدالكريم قاسم، ومطالبته بضمها إلى العراق.

وقد انتقد الملك سعود الحكومة البريطانية حول سياستها، تجاه واحة البريمي، ووصفها بأنها سياسة خائنة بالنسبة للحكومة السعودية. فقد زار المستر سيفتون دلمار ـ المشرف على الشؤون الخارجية في جريدة الديلي إكسبريس البريطانية ـ المملكة العربية السعودية، في عام 1375/ 1956، وقابل الملك سعود، في قصر الحمراء في الرياض، وسجل حديثاً صحفياً، دار بينه وبين الملك سعود، عن الشؤون السياسية العامة. وقد أكد الملك سعود، في هذا الحديث: "أنه لا شيء أحب إليه من استئناف المحادثات مع البريطانيين؛ للوصول على اتفاق، في سبيل إعادة واحة البريمي، إلى المملكة العربية السعودية. وأنه حريص على الصداقة التقليدية مع بريطانيا، ويود أن يراها تزدهر، كما كانت في الماضي. ولكن ذلك لا يمكن، إلا إذا تخلت بريطانيا عن معاداتها لنا، وإلا إذا اعترفت بسيادتنا، في أرض آبائي وأجدادي".

كما قال الملك سعود في هذا الحديث: " إنه إذا لم تعدل بريطانيا عن موقفها، فسنضطر إلى عرض الموضوع على مجلس الأمن "، ثم أضاف: " إنني أرجو ألا أفعل ذلك، ولكن لن أتردد في هذا، إذا أجبرني الإنجليز عليه. لقد نشر الإنجليز وثائق لتأييد قضيتهم، وإن عندي وثائق أهم مما عرضوه، ولكني أحتفظ بها، في الوقت المناسب ". وقال الملك سعود أيضاً: " إذا كانت مناوءة الإنجليز لمطالبنا ناجمة عن خوفهم من ضياع إمكانيات امتياز الزيت، هناك، فإننا مستعدون لتبديد هذه المخاوف، وإنني مستعد لوعد بريطانيا، بمنح امتيازات الزيت، هناك، إلى شركة بريطانية".

كما أضاف الملك سعود، قائلاً: "عندما طلب مستر تشرشل، إلى والدي، دخول الحرب ضد الألمان والطليان، فعل والدي ذلك، على الرغم من عدم وجود معاهدة، تلزمه بذلك، وعلى الرغم من أن بلادنا كانت مفتوحة ومعرضة للهجوم في جميع الجهات. ألم يكن ذلك عين الصداقة والوفاء؟ ولكن كيف كافأتنا بريطانيا على ذلك؟ إنها رفضت مطالبنا باستعادة أراضينا، التي كانت دائماً تابعة لنا، ثم أوقفت سير التحكيم في جنيف، عندما رأت أنها ستخسر القضية، وأخيراً هاجمت البريمي بقواتها، دون إنذار، وقبض على جنودنا، بل وقتلت بعض رجالنا، هناك. إننا على يقين أن سلطان مسقط، وحاكم أبو ظبي، غير موافقين على ما قام به الإنجليز، ولكنهما سارا، في هذا الطريق، تحت الضغط البريطاني".

وقد كان موقف الملك سعود، من الاعتداء الثلاثي على مصر، موقفاً صارماً، ومؤيداً لجمهورية مصر، فقد أمر بقطع العلاقات السعودية مع بريطانيا وفرنسا، ومنع شحن أو تموين السفن الإنجليزية والفرنسية، من الموانيء السعودية، إثر الاعتداء الثلاثي على مصر، عام 1956.

وقد أيدت الحكومة السعودية، في عهد الملك سعود، جهاد شعب الجزائر، ووقفت معه في المحافل الدولية، وأمدت المجاهدين بالأموال، وفتحت أبواب التطوع والتبرع المادي، للشعب الجزائري، حتى نال استقلاله.

وتوثقت العلاقات السعودية الأردنية، في عهد الملك سعود، وتبادل العاهلان الزيارات الودية، وقدمت السعودية الدعم المادي، لصمودالأردن، حسب قرارات الزعماء العرب.

وشارك الملك سعود في اجتماعات أقطاب العرب، في القاهرة، مرات عديدة، حيث التقى بالرئيس جمال عبدالناصر، والرئيس السوري شكري القوتلي، والملك حسين وغيرهم. بل كانت آخر أعماله في الحكم، هي ترأس الوفد السعودي إلى مؤتمر القمة العربي الأول، الذي عقد بالقاهرة في يناير 1964.

كما زار الملك سعود عدداً من البلاد العربية، لتوثيق عرى الأخوة والتضامن العربي، فزار مراكش، وتونس، وليبيا، واليمن، والعراق، وسورية، ولبنان، والبحرين، والكويت.

وزاره، في الرياض، ملوك ورؤساء هذه الدول، وكذلك زاره رئيس وزراء السودان، وفرحات عباس، رئيس حكومة الجزائر المؤقتة.

ولتوثيق التعاون مع الدول الإسلامية، أو التي تضم مسلمين، زار الملك سعود إيران، واستقبل شاه إيران في الرياض، وزار باكستان، وزاره في الرياض حكام باكستان، غلام محمد علي، ثم إسكندر ميرزا، ثم أيوب خان. وزار الهند، ورد له الزيارة، رئيس وزرائها، البانديت جواهر لال نهرو. وزار الحبشة، ورد له الزيارة الإمبراطور هيلاسلاسي، وزاره الرئيس الأندونيسي، ورئيس الصومال، وغيرهم، من زعماء البلاد الإسلامية.

كل هذا أثمر علاقات حسنة، مع البلاد العربية والإسلامية الشقيقة، كان لها أثرها، لسنوات تلت ذلك.

أ. زيارة الملك سعود للولايات المتحدة الأمريكية

وجهت الإدارة الأمريكية، في السابع من يناير 1957، دعوة إلى الملك سعود؛ لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية، تبدأ من 27 يناير حتى الأول من فبراير عام 1957.

وقد أورد الرئيس الأمريكي أيزنهاور، في مذكراته، أنه، على الرغم من مطالبة الكثير من الأمريكان، وفي مقدمتهم سكان نيويورك وأغلبهم من اليهود، إلغاء الزيارة، فإن الإدارة الأمريكية لم تغير موقفها؛ لأنها عدّت زيارة الملك سعود لأمريكا مهمة، لتطوير العلاقات الأمريكية – السعودية.

وقد رحب الملك سعود بهذه الدعوة، وعند مغادرته المملكة العربية السعودية، عرج في طريقه على القاهرة، لحضور مؤتمر القمة العربية، الذي حدد له يوم 18 جمادى الثانية 1376/19 يناير 1957، وضم المؤتمر إضافة إلى الملك سعود، الرئيس جمال عبدالناصر، والملك حسين، وصبري العسلي رئيس الحكومة السورية. وقد انتهى المؤتمر بتوقيع اتفاقية، أطلق عليها " اتفاقية التضامن العربي"، نصت على تقديم مساعدة مالية للأردن، بديلاً للمساعدة البريطانية، التي فقدها، نتيجة عدم الانضمام إلى حلف بغداد. كما ناقش المؤتمر قضايا المنطقة، وأعلن المؤتمرون رفضهم مبدأ أيزنهاور، ونظرية ملء الفراغ الأمريكية، التي لا تؤمن بها الأقطار العربية. واتفقوا على تخويل الملك سعود، التحدث إلى الرئيس الأمريكي إيزنهاور، حول القضايا العربية.

وبعد انتهاء المؤتمر، غادر الملك سعود القاهرة، إلى ميناء نابولي بإيطاليا، ومنها، أبحر على متن الباخرة الأمريكية (كونستتوشن Constitution)، متوجهاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

ولأهمية الزيارة لدى الإدارة الأمريكية، قرر الرئيس أيزنهاور التوجه شخصياً، إلى مطار واشنطن، لاستقبال الملك سعود، عند قدومه من نيويورك. وكان على غير العادة، فالمعتاد عند زيارة الملوك والرؤساء للولايات المتحدة، أن يقوم الرئيس الأمريكي باستقبال زائريه، عند درجات البيت الأبيض.

وقبل وصول الباخرة، التي تقل الملك سعود إلى نيويورك، توجهت إليها إحدى السفن؛ لنقل الملك سعود إلى الميناء، في الوقت، الذي كانت فيه إحدى حاملات الطائرات الأمريكية تطلق قذائفها تحية للملك. وعند وصول الملك سعود ميناء نيويورك، استقبله هنري كابوت لودج Henary Cabot Lodge، ممثلاً عن الرئيس أيزنهاور، كما استقبله رؤساء الوفود العربية، لدى الأمم المتحدة، حيث كان من المقرر أن يوجه الملك سعود كلمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وعلى الرغم من الاستقبال الكبير، الذي حظي به الملك سعود، فإن حاكم ولاية نيويورك، روبرت واجنر Robert Wagner، رفض المشاركة في الاستقبال، بدعوى أن الملك سعود معاد لليهود والكاثوليكية. ومع ذلك أجرى الرئيس الأمريكي استقبالاً خاصاً للملك سعود في مطار واشنطن، في 30 يناير 1957/ 29 جمادى الآخرة 1376.

وفي مطار واشنطن تبادل الملك، مع مضيفه، الكلمات، فقال الرئيس أيزنهاور: "نحن سعيدون، إذا حسبناكم صديقنا، وإني أنتظر، بفارغ الصبر، ابتداء المفاوضات بيننا، لمناقشة المشاكل، التي تهم بلدينا، لأننا نقدر صداقتكم، ونعتقد أن النتائج ستقوي صداقتنا لبلادكم وتؤكدها".

ورداً على كلمة الرئيس أيزنهاور، قال الملك سعود: " باسم شعبي، أود أن أؤكد، لفخامتكم، رغبتنا في إقامة صلات مع الشعب الأمريكي، على أساس الصداقة والمصلحة المتبادلة".

وبعد مراسيم الاستقبال، بدأت المباحثات في البيت الأبيض، في اليوم نفسه، بين الجانبين: الأمريكي والسعودي. وعقد أول اجتماع ضم الملك سعود والرئيس أيزنهاور، ووزير الخارجية الأمريكي، جون فوستر دالاس، استغرق ساعة وخمس عشرة دقيقة. وبعدها عقد اجتماع ثنائي، بين الرئيس أيزنهاور والملك سعود. ويقول الرئيس أيزنهاور، في مذكراته: "إن لقاءه المنفرد بالملك سعود، تناول مناقشة العديد من القضايا، التي تخص منطقة الشرق الأوسط، والسعودية خاصة، وإن الملك سعود انتقد السياسة البريطانية تجاه العرب بصورة عامة، والسعودية على وجه الخصوص، والقائمة على إبقاء العرب في حالة ترد وضعف، وعدم تزويدهم بأي إمكانيات عسكرية، تسهم في تطوير أوضاعهم الداخلية، وتساعدهم على حماية حدودهم الخارجية.

وطلب الملك سعود، من أيزنهاور، أن يتوسط بين أمريكا والدول العربية، للتعاون والاستفادة من مبدأ أيزنهاور، فقبل القيام بهذه الوساطة.

ولكن الدعاية المصرية سبقت الملك سعود، إلى الرأي العام العربي، وأشاعت أنه تلقى هدية ضخمة جداً من الرئيس الأمريكي، وأن هذه الوساطة تقضي على فكرة الحياد الإيجابي، التي يجب على الدول العربية اعتناقها؛ لضمان مصالحها العليا، وأن الاتفاق مع أمريكا قد يكون مقبولاً لو أنه كان موجهاً ضد إسرائيل... لا ضد الشيوعية.

وقد أخفق الملك سعود، فعلاً، في وساطته، ونشأت، بينه وبين الرئيس المصري، عداوة كبيرة، استمرت، حتى نشوء الأزمة في اليمن عام 1962.

ب. تزويد الجيش السعودي بالسلاح والمعدات الأمريكية

على أن رحلة الملك سعود إلى أمريكا، قد أثمرت توقيع اتفاق سعودي أمريكي، تعهدت فيه أمريكا بتجهيز الجيش السعودي بالسلاح والعتاد والطائرات والتدريب، ونحو ذلك. كما مددت اتفاقية مطار الظهران، خمس سنوات أخرى.

وفي ختام زيارة الملك سعود إلى الولايات المتحدة الأمريكية، صدر في واشنطن في 9 رجب 1376/8 فبراير 1957، بيان مشترك عن المباحثات والنتائج، التي تم التوصل إليها، بخصوص القضايا، التي طرحت في أثناء سير الاجتماعات. وكان أهم الموضوعات، التي تضمنها البيان: تأكيد أهمية السعودية الاقتصادية والدينية في منطقة الشرق الأوسط، وضرورة تعزيز قدراتها، والحفاظ على استقرارها. كما اتفق الجانبان، على بذل جهودهما، لحل مشكلات المنطقة، بالطرق السلمية، وضمن قرارات الأمم المتحدة، ومعارضتهما استخدام القوة وسيلة لحسم المشكلات الدولية. وعبر الملك سعود عن نيته مواصلة التعاون مع الولايات المتحدة. ومن جانبه، أكد الرئيس أيزنهاور استمرار الدعم العسكري، لتطوير الجيش السعودي.

ج. الملك سعود وهيئة الأمم المتحدة

في أثناء زيارة الملك سعود للولايات المتحدة الأمريكية، اعتلى منبر الجمعية العمومية، للأمم المتحدة، وألقى خطاباً فياضاً، قال فيه:

"إن الرجوع إلى حظيرة الأمم المتحدة، ورد علاقات الدول والشعوب إلى مبادئها، والتمسك بأحكام ميثاقها، نصاً وروحاً، وتمكين الشعوب المطالبة بحقها في الحرية والاستقلال، وتقرير مصيرها، هو السبيل الوحيد لتجنب الإنسانية ضرر الأزمات والويلات، وافتتاح عهد جديد من السلام الحقيقي، والتفاهم المتبادل في علاقات الأمم. عهد تسوده الصراحة والتعاون الصادق، لخير البشرية جمعاء. ومن حسن حظ الإنسانية، فقد شهدنا في هذه الهيئة، في الأيام الأخيرة، انطلاقاً أحيا الآمال، وأعاد إلى النفوس بعض الثقة، ولمسنا منها تصميماً، على التمسك بمبادئها، والسير بها في الاتجاه القويم".

3. مرض الملك سعود وعجزه ثم خلعه

كان الملك سعود، في سنواته الأخيرة، يعاني من أمراض متعددة، بين آلام في المفاصل، إلى ارتفاع في ضغط الدم. وكان ذلك يستدعيه إلى الذهاب، للاستشفاء في خارج البلاد. وفي أواخر عام 1383/ أوائل عام 1964، اشتدت عليه وطأة المرض، الذي أضعفه، وأقعده عن القيام بأعباء الحكم، وتصريف شؤون المملكة، وأصبحت حالته الصحية تستوجب العلاج، خارج البلاد. وكان الخلاف بين الملك سعود وولي عهده الأمير فيصل، قد بدأ يطل برأسه، فاجتمع العلماء وأفراد الأسرة المالكة للتشاور في الأمر، في 16 شعبان 1383، واتخذوا قراراً لرأب الصدع، وإصلاح حال البلاد، ولم ينشر ذلك القرار، ولا تعلم صيغته، ولكن أشير إليه في فتوى لاحقة.

ولما تطورت الأمور نحو الأسوأ، باتساع شقة الخلاف بين الملك سعود وولي عهده الأمير فيصل، دعا الأمير محمد بن عبدالعزيز، أكبر أبناء الملك عبدالعزيز، بعد سعود وفيصل، العلماء ثم الأمراء في 16 ذي القعدة 1383/29 مارس 1964، لتدارك الخطر المحيق بالمملكة، فاجتمع العلماء أولاً، وأصدروا فتوى شرعية، تنص على أن يبقى الملك سعود ملكاً على البلاد، له واجب الاحترام والإجلال، وأن يقوم ولي العهد الأمير فيصل، بتصريف جميع شؤون الدولة، سواء منها الداخلية أو الخارجية، في حضور الملك أو غيابه، بدون الرجوع إلى الملك في ذلك. وقد عدت هذه الفتوى بمثابة (وصاية على العرش).

وبعد صدور هذه الفتوى، تلاها قرار مماثل، من الأسرة السعودية المالكة، موقع من أبناء الملك عبدالعزيز، وكبار أمراء آل سعود، قالوا في آخره:

أولاً: إننا نؤيد، التأييد التام، الفتوى، التي صدرت من أصحاب الفضيلة العلماء.

ثانياً: نطالب سمو الأمير فيصل ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، الإسراع في تنفيذ هذه الفتوى، واتخاذ الإجراءات اللازمة، لتعديل الأنظمة السابقة، حتى يمارس سموه جميع الصلاحيات، التي نصت عليها الأنظمة المعمول بها، على إناطتها بجلالة الملك.

واجتمع مجلس الوزراء في اليوم التالي الموافق 17 ذي القعدة 1383، برئاسة الأمير خالد بن عبدالعزيز، نائب رئيس مجلس الوزراء، واتخذ قراراً بنقل سلطات الملك سعود إلى ولي عهده ورئيس مجلس الوزراء، الأمير فيصل بن عبدالعزيز، استناداً إلى الفتوى الشرعية للعلماء، والصادرة في 16/11/1383، وإلى القرار الذي اتخذه أعضاء الأسرة المالكة، واستناداً أيضاً إلى الأمر الملكي الصادر برقم 42 وتاريخ 9 شوال 1381، والذي بمقتضاه أصبح صاحب السمو الملكي الأمير فيصل نائباً عن جلالة الملك في شؤون الدولة، في حالة غيابه وحضوره.

ونص قرار مجلس الوزراء أن يتولى ولي العهد الأمير فيصل جميع المسؤوليات والصلاحيات، التي يتمتع بها الملك، وتشمل المسؤوليات والصلاحيات التنظيمية والتنفيذية والإدارية والقضائية، وأن تناط به كل الأحكام الشرعية والنظامية، التي كانت للملك، بوصفه رئيساً للدولة، وقائداً أعلى للقوات المسلحة (انظر ملحق فتوى العلماء، وقرار الأسرة المالكة، وقرار مجلس الوزراء حول تولى الأمير فيصل ولي العهد سلطات الملك في حضوره وغيابه).

كان المتوقع، بعد صدور تلك القرارات، أن يحل الهدوء والسكينة محل الخلاف والنزاع، لكن من لا تهمهم مصلحة البلاد، قاموا يوسعون شقة الخلاف، في الوقت، الذي اشتد فيه المرض بالملك، وأصبح معه غير قادر على تصريف مهام الدولة، وشؤون الملك.

ورأى أهل الحل والعقد، من أفراد الأسرة المالكة، ومن العلماء، أنه لم يبق أمامهم، إلا أن يجابهوا الموقف بحزم، ويضعوا العلاج الحاسم لهذا الموقف، خشية على مصير البلاد. فاجتمع أمراء الأسرة المالكة، واتخذوا قرارهم بخلع الملك سعود، وتنصيب ولي العهد ملكاً، في يوم 22 جمادى الآخرة 1384. وبعثوا بقرارهم هذا إلى أصحاب الفضيلة العلماء، يطلبون النظر فيه، من الوجهة الشرعية.

واجتمع العلماء لمناقشة هذا الأمر الخطير، وقبل أن يتخذوا قرارهم، بذلوا محاولة أخيرة لإقناع الملك سعود، أن يتنازل لأخيه وولي عهده عن العرش، فبعثوا له، وهم في اجتماعهم ذاك، ثلاثة من كبار العلماء، هم الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، والشيخ عبدالله بن محمد بن حميد، والشيخ عمر بن حسن بن حسين آل الشيخ. وبعد أن قابل الوفدُ الملك سعود، عرضوا عليه أن يقبل التنازل عن العرش لولي عهده وأخيه فيصل، وصارحوه أن كل شيء قد انتهى، ولم يبق إلا توقيع قرارهم بخلعه، وأنه من الأصلح له أن يتنازل، ولكن الملك سعود أبى، ورفض التنازل.

فعاد الوفد إلى المجتمعين، واستقر أمر العلماء وأفراد الأسرة المالكة السعودية، على خلع الملك سعود، ومبايعة ولي العهد الأمير فيصل ملكاً على البلاد.

وفي يوم الأحد 26 جمادى الآخرة 1384، عقد اجتماع كبير، وحشد عظيم، ضم العلماء والقضاة من جميع أنحاء المملكة، لم يتخلف منهم أحد، وعلى رأسهم رئيس القضاة، مفتي البلاد الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ، وجميع أفراد الأسرة المالكة من أهل الحل والعقد، وتناقشوا في الأمر، وفي الطرق الكفيلة بتجنيب البلاد عاقبة وخيمة.

وقام المفتى الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بتلاوة القرار، الذي اتفق عليه الأمراء والعلماء، في ذلك الجمع المحتشد:

"بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه، أجمعين، وبعد:

فقد حصل الاتفاق والاجتماع من أمراء سائر العائلة المكرمة السعودية، ومن طلبة العلم، على خلع سعود بن عبدالعزيز، والآن هو مخلوع، وسيُبايع فيصل الآن، وأن يوفق (الله) فيصل لما يحبه ، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. وصلى الله على محمد وآله وصحبه".

مبايعة فيصل بالملك

وفي يوم الاثنين 27 جمادى الآخرة 1384، اجتمع مجلس الوزراء ومجلس الشورى، برئاسة الأمير خالد بن عبدالعزيز، نائب رئيس مجلس الوزراء، وقرروا خلع الملك سعود، ومبايعة فيصل ملكاً شرعياً على المملكة العربية السعودية، وإماماً للمسلمين، مستندين في ذلك إلى نص الخطاب المؤرخ في 22 جمادى الآخرة 1384، الموجه من أسرة آل سعود كافة، إلى العلماء، الذين أعلموهم فيه قرارهم بخلع سعود، ومبايعة فيصل ملكاً على البلاد وإماماً للمسلمين. وأيضاً استناداً على الفتوى الشرعية لأصحاب السماحة والفضيلة العلماء، المؤرخة 26 جمادى الآخرة 1384، وهي الفتوى المستندة على الفتوى السابقة المؤرخة في 16 ذي القعدة 1383.

ثم حمل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، رئيس القضاة ومفتي المملكة العربية السعودية، قرار مجلس الوزراء ومجلس الشورى، وفتوى العلماء، واتفاق أهل الحل والعقد، إلى الأمير فيصل بن عبدالعزيز في جمع حاشد من الأمراء، والعلماء، والوزراء، وكبار القوم. وتقدم سماحة المفتي وتلى أمام الفيصل ما قرره العلماء من قبل، ثم مد يده إليه، وبايعه، قائلاً:

"قد بايعتك على كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى إقامة العدل والإنصاف، والقيام بأمور الإمامة وأدائها المعروفة والمعلومة. وفقك الله لما يحبه ويرضاه".

وبايع، بعده، جميع الحاضرين، من العلماء والقضاة، ثم تلاهم أفراد الأسرة المالكة، ثم كبار القوم والأعيان، ثم قواد الجيش، وضباطه، وصف الضباط ممن حضروا، ثم مسؤولو الحرس الوطني، ومشايخ القبائل، ثم الوزراء، وأعضاء مجلس الشورى، وأمراء المقاطعات، وقدموا له بيعتهم. وبعد أن انتهى الجميع من تقديم مبايعتهم، أجابهم الملك فيصل قائلاً:

"وأنا، من جانبي، أبايعكم، على اتباع كتاب الله وسنة رسوله، وتحكيم الشريعة، وأن أكون خادماً للشرع في جميع الأمور، وأن أسعى بكل ما في إمكاني لحفظ كيان هذا البلد، وخدمة مواطنيه، فيما يصلح دينهم ودنياهم. وأرجو الله، سبحانه وتعالى، أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، عاملين بالخير متقين الشر، متبعين كتاب الله وسنة رسوله، وأن يجعلنا من أنصار دينه ،وأن يوفقنا دائماً لاتباع ما يجب علينا، من خدمة ديننا وأمتنا ووطننا، إنه على ما يشاء قدير، والله، سبحانه وتعالى، يوفق الجميع للخير".

وبعد أن تمت هذه البيعة توافدت الوفود من أنحاء المملكة العربية السعودية، بكل وسائل المواصلات، لأداء البيعة. واستمرت بيعة الوافدين أكثر من عشرين يوماً. وبعد أن أذيع نبأ هذه البيعة، انهالت مئات الألوف من البرقيات، من ملوك ورؤساء العالم العربي والإسلامي، وغيرهم من الدول الأجنبية، مهنئين ومؤيدين.

وبذلك بويع الملك فيصل، ملكاً شرعياً على البلاد، وإماما للمسلمين، في يوم الاثنين 27 جمادى الثانية 1384/ 2 نوفمبر 1964.

ورأى الملك سعود أن المصلحة العامة والخاصة، تقتضي أن يدخل في ما دخل فيه الناس، حرصاً على وحدة الكلمة، وجمع الشمل، فأرسل كتاباً بايع فيه أخاه قال فيه:

"من سعود بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل إلى جناب الأخ جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز سلمه الله.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

بناء على ما أقرته الأسرة المالكة والعلماء بتنصيبكم ملكاً على البلاد، فإننا نبايعكم على كتاب الله وسنة رسوله، ملكاً على البلاد، راجياً لكم التوفيق وللشعب السعودي الرفاهية والازدهار والتقدم، والسلام.

التوقيع سعود

تاريخ 1/9/84 الموافق 3/1/65".

وفي يوم الأربعاء 4 رمضان 1384/6 يناير 1965، غادر الملك سعود البلاد إلى النمسا للعلاج والاستشفاء.



[1] كان فيصل نائباً لرئيس مجلس الوزراء منذ عهد أبيه وأول عهد الملك سعود.

[2] عين فيما بعد محافظاً لمؤسسة النقد العربي السعودي.